روايات شيقهرواية وبقي منها حطام أنثى

رواية وبقي منها حطام أنثى للكاتبة منال سالم و ياسمين عادل الفصل الثاني

تعالت أصوات الجر والسحب، ووقوع بعض الأشياء، محدثة دوياً مزعجاً لدى السيدة ميسرة، والتي ظلت تطالع السقف بنظرات قلقة..
أخذت نفساً عميقاً، ولوت فمها وهي تزفره على مهل..
ميسرة بنبرة ضائقة: يا روان، بت يا روان
خرجت من الغرفة المجاورة فتاة صغيرة في السن – في السادسة عشر من عمرها – وهي تضع مشبكاً للرأس في فمها، ونظرت إلى عمتها بتفحص، ثم حاولت أن تتحدث، فبدى صوتها غريباً وهي تقول:.

ايوه يا عمتو
ميسرة بنبرة حادة وهي ترمقها بنظرات إستغراب: شيلي يا بت البتاع ده من بؤك عشان اعرف افهمك
جذبت روان مشبك الرأس من فمها، وربطت به شعرها، ثم اقتربت منها، وجلست على مسند الأريكة الجالسة هي عليها، وانحنت لتقبلها من رأسها، وتابعت بتساؤل:
خير يا عمتووو؟
طرااااااااخ
إنتفضت كلتاهما بذعر، وحدقتا في السقف، ثم صاحت ميسرة بغضب وهي تضرب فخذها:
سامعة الدوشة اللي فوق دي، هما هيهدوا البيت على دماغنا.

روان متسائلة بإنزعاج وهي توزع أنظارها ما بين عمتها والسقف: ايه ده يا عمتو؟ أنا من الصبح سامعاها بس مش فاهمة في ايه؟
أشارت لها ميسرة بيدها وأمرتها:
اطلعي بصي كده وقوليلي
روان وهي توميء برأسها موافقة: حاضر
ثم نهضت عن المسند، وتوجهت ناحية باب المنزل..

في نفس التوقيت فُتح الباب ليدلف منه شاب في مقتبل العمر، في بداية العقد الثاني، ملامح بشرته قمحية، وعينيه بنيتين داكنتين، أما شعره فهو أسود كثيف، وذقنه حليقة، أما طوله فهو فاره، وجسده عادي ليس بالممتليء ولا النحيل..
ابتسمت روان لرؤيته، بينما طالعها هو بأعينه الناعسة، فهتفت هي بحماس:
مالك جه أهوو! هو أكيد عارف اللي بيحصل فوق!
مالك متسائلاً بصوت هاديء: سلامو عليكم، في ايه يا جماعة؟

ميسرة بصوت منزعج وهي تشير بيدها: وعليكم السلام يا بني، في صوت هد ورزع في البيت من الصبح، وإحنا مش عارفين ده من ايه
أومأ هو برأسه ولم يعقب، بينما تابعت روان:
وعمتو خايفة السقف يقع علينا!
ثم جحظت بعينيها، وأضافت بنبرة هامسة:
يكونش في عفاريت فوق!
ميسرة بنبرة شبه خائفة: استر يا رب، هي الحكاية ناقصة!
ضحك هو بصورة غريبة، بينما قطبت روان جبينها ونظرت له بإندهاش وهي تتسائل:
بتضحك ليه كده؟

مالك وهو يحاول السيطرة على ضحكاته: أصل الموضوع أبسط من كده بكتير
روان متسائلة بإهتمام: ازاي؟!
مالك بنبرة متريثة: الشقة اللي فوقنا سكنت
لطمت ميسرة على صدرها بكفيها، وشهقت مذعورة:
عفاريت!
مالك نافياً: لأ يا عمتو، جيران جداد اتنقلوا فيها
روان متسائلة بإستفسار: طب وإنت عرفت منين؟
اجابها مالك بهدوء:
يا بنتي إنتي لو كلفتي نفسك وفاتحتي الشباك هتلاقي عربيات العفش واقفة تحت، والناس بتنقل حاجتها لفوق.

شعرت روان بالغباء من عدم التفكير فيما حدث بصورة منطقية..
تنهدت ميسرة في إرتياح، ونظرت إلى مالك بحنو، وشكرته قائلة:
طمنت قلبي يا بني، ربنا يكرمك
وضعت روان يديها في منتصف خصرها، وعبست بوجهها لتقول والحيرة مسيطرة عليها:
طيب أنا هاعمل ايه الوقتي، اطلع يا عمتو للجيران ولا أخش أوضتي؟!
أشارت لها ميسرة بيدها لتقول بجدية:
لأ استني، أنا جاية معاكي!

ثم نهضت عن الأريكة، ووقفت تعدل من حجابها المنزلي، فنظر لها مالك بغرابة متسائلاً:
انتو رايحين فين؟
ميسرة بصوت ناعم بعد أن إلتفتت نحوه: هارحب بالجيران الجداد، واجيبلهم حاجة بسيطة يكلوها، أكيد مش هايكونوا فاضيين يطبخوا!
مالك بنبرة ممتنة: كتر خيرك يا عمتو!
ميسرة بجدية: ده واجب يا بني، الجيران لبعضيها، والنبي وصى على سابع جار
مالك بهدوء: عليه الصلاة والسلام
ثم أضافت هي بصوت أمومي حاني:.

خش يا مالك يا بني غير هدومك، وأنا شوية وهاجهزلك لقمة تاكلها
مالك وهو يتنهد في إنهاك: أنا هاكل لما يجي عمي ابراهيم!
ابتسمت له ميسرة قائلة:
اللي يريحك يا بني!

نفخت تحية من الضيق ورفعت يدها على جبينها لتمسح حبات العرق الغزيرة المتجمعة عليه، ثم انحنت لتحمل ذلك الصندوق الكرتوني وتضعه في أحد الأركان..
سار ابنها عمرو بخطوات أقرب للركض وهو يصيح بضجر:
ماما، مش أنا قايلك ماتشليش حاجة؟!
تحية بصوت مرهق: أديني بأساعد
عمرو بتذمر: أنا عارف، بس انتي من الصبح شغالة معانا، وباين عليك التعب
تحية بنبرة منهكة: معلش، هما يومين وهنرتاح كلنا.

عمرو وهو يلوي فمه بضيق: يا ريت، كفاية أوي الغلب اللي شفناه مع بنتك
تحية وهي تنهره بحدة: قفل على السيرة دي، إحنا مش ناقصين غم!
لوى فمه ليقول بسخط وهو مكفهر الوجه:
مش هي السبب في الوحلة دي؟!
تحية بإصرار: خلاص بقى
عمرو متسائلاً بجدية وهو يتلفت حوله: أومال المحروسة فين؟
تحية وهي تشير بيدها: هناك، بتحط حاجتها
تنهد عمرو مجدداً، وأردف قائلاً:
ماشي، وأنا نازل أشوف الشيالين وأتابع بقية العفش وهو طالع.

تحية وهي توميء برأسها: ربنا يعينك، وابقى شوف أبوك إن كان محتاج حاجة كده ولا كده
عمرو على مضض: ماشي!
ثم إتجه خارج المنزل ليتفاجيء بتلك السيدة التي تحمل صينية مغطاة بيديها، ومن خلفها فتاة صغيرة تبتسم له، فنظر إلى كلتاهما بتفحص، و..
عمرو متسائلاً بتجهم: ايوه؟ انتو مين؟
ميسرة بصوت هاديء: احنا الجيران اللي ساكنين تحتكم، جاين نسلم عليكم ونرحب بيكم في العمارة
تنحنح هو في حرج، وارتخت عضلات وجهه المشدودة، و..

عمرو بصوت خشن: أهلا وسهلاً، معلش اعذرونا احنا مشغولين
ميسرة بتفهم: اه يا بني، أنا عارفة، كان الله في العون
عضت هي على شفتيها، وتابعت…
ميسرة بتردد: آآ، هي، آآ، الست الوالدة موجودة
عمرو وهو يوميء برأسه: ايوه، اتفضلي.

ثم أشار بيده ناحية باب المنزل، فإبتسمت له العمة ميسرة مجاملة، وتوجهت إلى حيث أشار، ولحقت بها ابنة أخيها، والتي إختلست النظرات إليه، فإنقبض قلبها من طريقته الفظة، ولم تشعر نحوه بالإرتياح و..
روان وهي تغمغم مع نفسها: شكله مش مريحني! الحمدلله إن مالك وشه بشوش!
دلف الجميع إلى داخل المنزل، وأسرع عمرو في خطاه..
عمرو صائحاً بقوة: ماما، تعالي في ضيوف
تحية وهي تتسائل بإندهاش: ضيوف مين دول يا بني؟

ثم دققت النظر في السيدة والفتاة، ورسمت على ثغرها ابتسامة زائفة و..
تحية بصوت جامد: سلامو عليكم!
ميسرة بنبرة خافتة وهي ترمش بعينيها: وعليكم السلام، نورتم العمارة، إحنا جيرانكم اللي تحت، وجايين نرحب بيكم
جابت روان بعينيها المكان، وتأملت محتويات المنزل على عجالة..
تحية وهي تجيبها بحماسة: يا مرحبا، ده البيت زاد نور بوجودكم
ميسرة بإبتسامة هادئة: تسلمي يا ست آآ…

تحية وهي ترد بصوت شبه مرتفع: أنا الحاجة تحية!
ثم إستدارت برأسها ناحية ابنها، تابعت بصوت جدي:
وده عمرو ابني البكري عنده 25 سنة، شغال في السكة الحديد مع عمه وآآ..
حدجها عمرو بنظرات حادة جعلتها تتوقف عن الحديث، وابتلعت ريقها متوترة من رده فعله..
تداركت ميسرة التوتر البادي سريعاً، وقالت بتلعثم:
آآ، اهلا بيك يا بني!
نظر عمرو إلى والدته بعتاب، فهو لا يحب تلك النوعية من التعرف الغير مباشر، ثم رد بنبرة خشنة:.

نورتي يا حاجة، هستأذن أنا
ميسرة بحرج: اتفضل يا بني
تابعته روان بخلسة، ولوت فمها وهي تتأمله محدثة نفسها ب:
جلنف بصحيح!
قطعت شرودها صوت تحية وهي ترحب بهما وتتناول الصينية من يديها، فسلطت أنظارها عليها، ورسمت إبتسامة زائفة على ثغرها..
ولجت إيثار إلى الصالة لتجدهما، فضيقت عينيها بإستغراب، وتسائلت بهدوء: ..
مين حضراتكم؟!
تحية وهي تشير بيدها: تعالي يا إيثار، مافيش حد غريب، دول جيرانا اللي تحت.

مدت إيثار يدها لتصافح تلك السيدة، ونظرت لها بدفيء، وابتسمت قائلة:
أهلا بيكم، أنا إيثار
ميسرة وهي تبادلها الإبتسام والمصافحة: ازيك يا بنتي
إيثار بخفوت: الحمدلله
روان مضيفة بحماس وهي تمد كفها: اسمك حلو أوي، وأنا بقى روان
ابتسمت لها إيثار، وصافحتها بحرارة، ومن ثم أطرقت رأسها في خجل..
روان متسائلة بفضول: انتي في سنة كام بقى؟
إيثار وهي تجيبها بصوت منخفض: انا في كلية حاسبات ومعلومات، الفرقة التالتة.

عقدت روان ما بين حاجبيها، وسألتها بجدية:
تبع جامعة الإسكندرية؟
نظرت إيثار إلى والدتها، وتبدل وجهها للعبوس، وترددت في الإجابة عليها، هل تخبرها بما صار من قبل معها، ومع عائلتها فإضطروا جميعاً للرحيل، وترك كل شيء خلفهم، أم تخترع أكذوبة ما وتجيبها بأنها ملتحقة بالجامعة هنا منذ فترة..
توترت تحية كثيراً هي الأخرى، وتسربت حمرة الغضب إلى عروق وجهها، ردت بصوت شبه متشنج:.

لأ هي لسه هتنقل هنا، كانت في جامعة القاهرة!
ميسرة متسائلة بإهتمام: يعني انتو مش من هنا أصلاً؟
تحية بصوت مرتبك: لأ، احنا من القاهرة، كنا عايشن هناك وعزلنا، والحاج رحيم جوزي قال نجرب حظنا هنا
ميسرة مكملة بإبتسامة عريضة: إن شاء الله حظكم يبقى حلو معانا، ولو عوزتي اي حاجة يا ست تحية أنا موجودة، ماتتكسفيش
تحية بهدوء: تسلمي..
أحاطت روان بذراعها كتف عمتها، وتشدقت بجدية:.

طب يالا يا عمتو نخلي الجماعة ياخدوا راحتهم، ونزورهم وقت تاني
تحية بحزن متصنع: ده لسه بدري! انتو مأنسينا!
ميسرة بصوت دافيء: تتكرر إن شاء الله، عن اذنكم..
انصرفت الإثنتين، وأوصلتهما تحية وهي تودعهما بحماس مصطنع، ثم إلتفتت إلى ابنتها، ورمقتها بنظرات حانقة، ونهرتها بغضب:
عاجبك كده!
إيثار متسائلة بصوت مختنق: في ايه يا ماما؟
تحية متابعة بغل: كل من هب ودب هيفضل يسألنا عن اللي حصل، واحنا مش هانخلص.

إيثار بنفاذ صبر: أنا ماليش ذنب يا ماما، ده النصيب
تحية بصوت شبه آمر: طب خشي روقي اوضتك، مش هانفضل قالبين البيت كده كتير!
إيثار بإستسلام: حاضر يا ماما، حاضر!

خرج مالك من المرحاض وهو يجفف وجهه بالمنشفة القطنية، ومر بباله طائف ذكرى تلك الفتاة بسيطة الملامح، ذات الأعين الحزينة، وإبتسم عفوياً لنفسه وهو يتذكر ما دار بينهما من حديث عابر…

سلط مالك أنظاره على تلك الفتاة التي كانت تعبث بمحتويات حقيبتها، وقطب جبينه مندهشاً، فهي المرة الأولى التي يراها فيها، ولم ينتبه إلى البوابة الحديدية الخاصة ببهو البناية، فإرتطم مقعده بقضبانها المعدنية، فأحدثت صوتاً مزعجاً جعلتها تلتفت إليه، وترفع رأسها نحوه لتنظر مباشرة في عينيه..
توردت وجنتيها خجلاً من نظراته المحدقة بها، وشعر هو بالإحراج لرؤيتها إياه وهو يفحصها..

ابتسم بتصنع، وتحرك للداخل، بينما سارت هي خلفه، لتدلف إلى البناية..
أدار مالك رأسه في اتجاهها، وزادت ابتسامته إشراقاً، وهتف بمزاح:
أنا تمام، والكرسي كويس لو انتي جاية تطمني علينا!
قطبت جبينها بشدة، وحافظت على جمود تعابير وجهها، ورمقته بنظرات حادة ولم ترد عليه..
مالك متابعاً بمرح: طب ليه التجاهل بس، على فكرة أنا مش بأعاكس، أنا ساكن هنا، ودي عمارتي.

رمقته إيثار بنظرات قوية ولم تعقب أيضاً، وأسرعت نحو الدرج لتصعد عليه بخفة وبسرعة..
توقف مالك لمتابعتها، وزاد فضوله لمعرفة هويتها، وتسائل مع نفسه بخفوت بعد أن تلاشت عن أنظاره:
مين دي؟!

أفاق مالك من شردوه، ونظر إلى نفسه ببلاهة، وأضاف قائلاً:
ايه الغباء اللي بأفكر فيه ده! تلاقيها واحدة جاية تزور حد هنا ولا هنا!
ثم إنتبه إلى صوت اخته وهي تفتح باب المنزل، وتدلف للداخل وهتفت بضجر:
يا ساتر يا رب على خلقته، ده بوزه شبرين!
ميسرة بنبرة محذرة: عيب يا روان، ماتتكلميش كده عن حد مش عارفاه
روان بإعتراض: لالالا، هو أنا استحمل اعرف أشكال زيه، ربنا يخليلي ملوكة حبيبي.

مالك متسائلاً بفضول وهو يرمقها بنظرات حائرة: مين ده اللي بتتكلموا عنه
روان مجيبة اياه بضيق: جارنا الغتت اللي ساكن فوقنا
رفعت ميسرة حاجبها للأعلى محذرة، وهتفت بصرامة وهي تشير بإصبعها:
روان، اتلمي، أنا قولت ايه؟!
روان وهي تلوي فمها على مضض: سوري يا عمتو
ميسرة وهي تشير بيدها: خشي اغسلي ايدك ووشك، ويالا على المطبخ خلينا نجهز الغدا لأخوكي وعمك
روان بتذمر: طيب حاضر.

ثم إتجهت ناحية المرحاض بخطوات عصبية، وتمتمت مع نفسها قائلة:
والله حرام اللي بيتعمل فيا، الواحد مايعرفش يقول رأيه أبداً براحته!
وضع مالك يده على كتف عمته، وربت عليه بخفة، ثم تسائل بفضول:
هو البت دي بتتكلم عن مين؟
ميسرة بتنهيدة متعبة: سيبك منها، عيلة ومش فاهمة حاجة
مالك مبتسماً: ماشي يا عمتو..

عقدت رحمة ساعديها أمام صدرها، ولوت شفتيها بسخط وهي تتأمل ذلك الصنبور الصديء، فبعد ساعات مطولة من التعب والإرهاق في ترتيب الأثاث، ووضع صناديق محتويات العائلة الخاصة في الأماكن المعدة لها، كُلفت هي بتنظيف المرحاض..
فوالدتها مكثت بالمطبخ لترتب الأواني والصحون، ووالدها وأخيها نزلا إلى الشارع ليحضرا بعض النواقص، وهي الآن بمفردها بداخله تحاول إعادة إحيائه، نفخت بضجر وهي تحدث نفسها ب:.

على أخر الزمن هبقى سباكة كمان!
مدت يدها لتفتح الصنبور العالق، فعجزت عن فتحه، وكزت على أسنانها قائلة بغضب:
هي قافشة كده ليه؟ ايدي وجعتني، وهي مش عاوزة تتفتح
وضعت يدها على رأسها، ومررت أصابعها في خصلاته، وتنهدت بتعب، وصاحت بنفاذ صبر:
دي مش هاينفع معاها إلى مفتاح فرنساوي أو مفك، وبابا طبعاً مش موجود، وماما مش هاتعرف مكان العِدة فين..!
فركت فروة رأسها عدة مرات، وتابعت بنبرة حائرة:
ممممم، طب أتصرف إزاي!

ثم خرجت من المرحاض، وهي تصيح بصوت مرتفع:
يا ماما، ماما
ردت عليها تحية من داخل المطبخ:
في ايه؟
ولجت إيثار إلى الداخل، وناولت والدتها إحدى الصحون الفارغة لترصها، وأردفت قائلة بجدية:
الحنفيات معلقة، ومش عاوزة تفتح معايا، وأنا مش عارفة مكان المحبس فين
تحية بإنهاك: هاتي حتة قديمة وامسكي بيها الحنفية ولفيها جامد هتلاقيها فتحت معاكي
إيثار وهي تزفر في ضيق: ما أنا عملت كده، ومافيش فايدة.

تحية متسائلة بنفاذ صبر: طب انتي عاوزة ايه؟
إيثار بجدية: مفك أو مفتاح فرنساوي، حاجة ألفها على الحنفية وافكها، ممكن يكون القلب بايظ من جوا
تحية بصوت مرهق: أنا معرفش أبوكي حاطط العدة بتاعته فين، واخوكي عمرو هيتأخر لما يخلص مشاويره مع أبوكي
إيثار متسائلة بنبرة حائرة: طب والحل ايه؟ ما هو مش معقول هاطلع أطلب من مرات عمي
تحية بحنق: لأ، مش عاوزين من خلقتهم حاجة، ده مهان على واحدة فيهم تيجي تقف معانا وتساعدنا.

تنهدت إيثار قائلة بإحباط:
الله الغني عن أي حاجة تيجي من طرفهم
فكرت تحية للحظة في حل لتلك المشكلة البسيطة، فتنظيف المرحاض قد يستغرق وقتاً، وهي تريد الانتهاء منه قبل أن يأتي زوجها حتى يغتسل ويرتاح دون أن يلقي عليها أو على ابنتها اللوم والعتاب..
تحية بصوت جاد: انزلي عند جارتنا اللي تحت
قطبت إيثار جبينها في فضول، ورددت:
جيرانا مين؟

تحية وهي تجيبها بضيق: يا بت الناس اللي كانوا عندنا الصبح، انزلي اسأليهم عن اللي انتي عاوزاه، واكيد هيساعدونا
إيثار بتذمر: من أولها كده يا ماما، هانشحت من الجيران
تحية مبررة: الجيران لبعضها! ومافيش وقت!
تنهدت إيثار في إستسلام:
طيب، هالبس الإسدال وأنزل
تحية بجدية: بسرعة بس!
إيثار بصوت مرتفع وهي تتجه إلى غرفتها: حاضر يا ماما.

سريعاً وضعت هي إسدال الصلاة على ملابسها المنزلية، وإلتقطت مفتاح المنزل، وقبضت عليه داخل كفها، ثم إتجهت إلى الخارج…

قام مالك برص صحون الطعام الفارغة على الطاولة، وأزاح المزهرية للجانب، وولج إلى المطبخ ليستنشق بإستمتاع رائحة الطعام الشهية، ومن ثم هتف بحماس:
الله الله يا عمتو، نفسك في الأكل مالوش زي
ميسرة بنبرة سعيدة: تسلم يا بني
مالك مكملاً بصوت جاد: أنا جهزت السفرة، ناقص بس أودي الأكل معاكي
ميسرة بنبرة ممتنة: ربنا يكرمك يا حبيبي، وجودك إنت وأختك مالي حياتنا، ربنا ما يحرمنا منكم.

مالك بنبرة حزينة: تسلمي يا عمتي، كفاية اللي عملتيه معانا انتي وعمو ابراهيم، حد تاني كان آآ…
قاطعته ميسرة بصوت جاد وهي تنظر له بقوة:
متكملش كلامك، انتو ولاد المرحوم أخويا، وربنا عوضني بيكم عن الخلفة اللي اترحمنا منها، وإن شاء الله أشوفك متهني انت واختك وأجوزكم، وأشوف عيالكم وعيال عيالكم
مالك بإبتسامة باهتة: إن شاء الله يا عمتي
ثم إنتبه كلاهما إلى صوت قرع الجرس، فإبتسمت ميسرة بسعادة:.

تلاقي عمك ابراهيم هو اللي بيخبط، افتحله الباب
مالك وهو يوميء برأسه: حاضر
إتجه مالك إلى خارج المطبخ، وفرك طرف ذقنه وهو يمد يده الأخرى للإمساك بالمقبض، ثم فتحه..
فغر فمه مشدوهاً، وإتسعت مقلتيه مصدوماً حينما رأى تلك الفتاة الشابة أمامه..
تجمدت الكلمات على شفتيها حينما رأته أمامها، وهتفت بصوت مصدوم:
انت!
لم يكن هو أقل ذهولاً منها، وردد بإندهاش:
إنتي!

توردت وجنتيها، وأجفلت عينيها للأسفل، وتوترت بشكل ملحوظ، فلم يطرأ ببالها أن يكون الشاب الذي حاول أن يتجاذب معها أطراف الحديث في الصباح – والذي ظنت أنه يعاكسها هو نفسه جارهم الذي يقطن أسفلهم..
ابتسم لها مالك بسعادة، ووضع يده في جيبه، وبالأخرى أمسك حافة الباب، تشدق مازحاً:
انتي تاني، المرادي في بيتنا، ومش بعاكس على فكرة!
زاد إرتباكها، وضمت كفيها معاً، وضغطت على أصابعها وردت عليه بتلعثم:.

أنا، انا مكونتش أعرف إنك، آآ، انك ساكن هنا
مالك بهدوء: أنا من الأول قولتلك اني ساكن هنا
رمشت بعينيها في إرتباك، وتابعت بخفوت:
سوري، هو، هو طنط موجودة أو، أو روان
ارتسمت علامات الإندهاش على وجهه، وهتف قائلاً بمرح:
واو، لحقتي تتعرفي على أختي بسرعة
رفعت رأسها فجأة لتنظر نحوه مذهولة، وسألته بإستغراب:
هاه، اختك؟!
مالك مازحاً وهو يهز رأسه: اها، اختي اللي فاضحنا في كل حتة.

إيثار متسائلة بخجل واضح: طب، طب هي موجودة، ممكن أكلمها؟!
مالك بحماس: اه طبعاً
إيثار بتوتر: ممكن تندهالي، أنا مش هاعطلها كتير
مالك مازحاً: طب ماينفعش أنا؟
صدمتها كلماته، ونظرت له بقوة، وهي عابسة الوجه، وصاحت بضيق:
ايه؟!
لاحظ مالك أنها لا تتقبل المزاح بسهولة، لذا تنحنح بصوت واضح قائلاً:
احم، سوري بهزر..!
ثم تراجع للجانب، وأشار بيده:
اتفضلي جوا، مايصحش نقف على الباب كده!

إيثار بإرتباك شديد وهي تهز رأسها معترضة: هاه، لأ، مش، مش هاينفع، اندهلي بس روان!
ثم تراجعت خطوة للخلف، وأشاحت بوجهها للجانب لتتجنب النظر إليه..
أدرك مالك أنه لن يتمكن من إقناعها بسهولة، لذا هز كتفيه قائلاً:
اوكي، لحظة!
غاب هو للحظات بالداخل، فإشرأبت هي بعنقها في خلسة محاولة النظر إلى محتويات المنزل، ولكنها أخفضت رأسها سريعاً حينما سمعت صوت همهمات تصدر على مقربة منها..

عاد مالك ومعه أخته روان التي تهللت أساريرها، وانفرج ثغرها بسعادة لتصيح:
إيثار
مالك في نفسه بإستغراب: اسمها إيثار! ده اسم غريب!
إيثار متسائلة بصوت أقرب للهمس: معلش يا روان، ممكن أطلب منك طلب؟
روان بتلهف: اه طبعاً، أؤمري
لكز مالك أخته في كتفها، فإنتبهت هي له، وظل محدقاً بإيثار وهو يهمس:
مش على الباب يا ذكية!
نظرت هي إلى أخيها بصدمة، وفهمت مقصده، وقالت بحرج:
اووبس، احم، صح، تعالي نتكلم جوا!

رأت إيثار ما حدث بينهما، فزاد هذا من حرجها منهما، وأجفلت عينيها، وهمست بخجل:
لأ مش هاينفع، الموضوع مش مستاهل
تحركت روان نحوها، ومدت قبضتها لتمسك بها من كفها، ثم جذبتها، وهي تقول بإصرار:
أبداً والله، تعالي بس
مالك بنبرة مرحة: ايوه كده، امسكي في صاحبتك بإيدك وسنانك
إبتسمت إيثار بخجل، واضطرت أسفة أن تدلف معهما إلى الداخل..
روان متسائلة بفضول: كنتي عاوزة ايه؟

إيثار بتردد وهي ترمش بعينيها: آآ، هو، هو في عندكم مفك أو مفتاح فرنساوي
مالك مازحاً: انتي ناوية تسرقي ولا ايه؟
رفعت إيثار عينيها العسليتين لتنظر له بغضب وحدة، فكلماته رغم كونها مازحة إلا أنها تُسيء إليها، وهتفت بضيق
نعم، أسرق!
رمقها هو بنظرات إستغراب، فهو لم يخطيء في حقها، مجرد مزاح بريء إعتاد قوله مع الفتيات فيضحكن عليه، ولكنها على العكس بدت حانقة منه..

لاحظت روان التوتر البادي بينهما، فتنحنحت بحرج، رسمت ابتسامة زائفة قائلة بنزق:
معلش يا إيثار هو مالك بيحب يهزر كده عمال على بطال
مالك بجدية: ايوه، أنا مقصدش حاجة على فكرة
روان متسائلة بفضول: طب انتي عاوزاهم ليه؟
إيثار دون تردد: الحنفيات معلقة ومش عارفة أفتحها
مالك متسائلاً بإستغراب: هو انتي بتعرفي تصلحي حنفيات؟
نظرت له شزرا وهي تجيبه بإمتعاض:
لأ، بس هحاول
روان بإندهاش: طب ما يمكن تبوظ منك!

إيثار وهي تهز كتفيها في حيرة: هاعمل ايه، ماهو لازم أتصرف قبل ما بابا يرجع
مالك بجدية: أنا بعد اذنك هاجي اساعدك
إيثار وهي تلوي شفتيها على مضض: ماتتعبش نفسك، أنا هاتصرف
روان بإصرار: يا بنتي دي حاجة عادية، مالك متخصص في أعمال السباكة والكهربا
مالك مبتسماً وهو يشير بيده إلى صدره: محسوبك صنايعي أد الدنيا
روان مضيفة بحماس: لأ وعازف ( كمان )، تخيلي، بس فاشل دراسياً!
مالك ساخراً: ايوه، سبع صنايع والبخت ضايع!

ابتسمت إيثار لطرفته الأخيرة، وأطرقت رأسها قليلاً، بينما دلف هو إلى الداخل ليحضر المطلوب..
خرجت ميسرة من المطبخ وهي تجفف يدها في المنشفة ومتسائلة بجدية:
عمكم ابراهيم جه يا ولاد!
ثم دققت النظر في تلك الفتاة التي تقف في الصالة، تسائلت بإستغراب:
إيثار! خير يا بنتي؟ كلكم تمام؟!
روان مجيبة إياها: اطمني يا عمتو، إيثار كانت عاوزة بس مفك عشان الحنفية
إيثار مضيفة: أو مفتاح فرنساوي
روان مبتسمة: ايوه صح!

ميسرة متسائلة بحيرة: ليه؟
إيثار بخفوت: في عندنا مشكلة في الحنفيات وآآ…
ميسرة مقاطعة بحماس: يبقى عليكي وعلى الواد مالك، ايده تتلف في حرير
روان بمرح: ما أنا قولتلها ده يا عمتو
أنا جاهز!
قالها مالك وهو يتجه نحوهن وممسكاً بحقيبة العدة المنزلية.

صعدت إيثار على الدرج والحرج يتملكها من كون مالك يصعد خلفها..
حاولت ألا تبدو مرتبكة أمامه، وألا تتعثر في إسدالها الطويل..
بعد أقل من دقيقة كانت تقف هي امام باب منزلها، وتدس المفتاح في موضعه لتفتحه وهي تقول بصوت مرتفع:
اتفضل، ماما، أنا معايا الاستاذ مالك جارنا اللي تحت
أسرعت والدتها بوضع حجابها على رأسها، قابلته بضيق بادي على وجهها قائلة بإنزعاج:
السلامو عليكم.

مالك مبتسماً: وعليكم السلام يا طنط، انا مالك رشاد جاركم في الدور اللي تحت، وعمتي ميسرة كانت طلعتلكم بدري وآ…
تحية مقاطعة بإمتعاض: ايوه عرفت
مالك وهو يتنحنح بصوت خشن: احم، أنا جاي أشوف الحنفيات
تحية بضيق: معلش يا أستاذ مالك هانتعبك معانا شوية
مالك معترضاً: مافيش داعي للتكليف
رمقت تحية ابنتها بنظرات محتدة للغاية، فماذا سيحدث لو عرف والدها أو اخيها بشأن إحضار ابنته لرجل غريب للمنزل..

بادلت إيثار والدتها نظرات أسفة، فهي لم تتعمد أن يحدث هذا، ولكن شاءت الأقدار أن تلتقي به، ويعرض عليها مساعدته، ولم تتمكن من الرفض..
وقف مالك أمام المرحاض، وتأمل الصنبور بنظرات متفحصة، ثم قال بجدية:
انتو محتاجين حنفيات جديدة، دول مش هاينفعوا
تحية بصوت منهك: الحاج رحيم هايبقى يشوف الموضوع ده بعدين، المهم الوقتي نشوف المياه
مالك بنبرة خافتة: حاضر.

كافح مالك ليفتح الصنبور العالق دون أن يحطمه، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد كان قلبه مهترئاً للغاية، فتحطم إلى أجزاء صغيرة، ولكن الكارثة الحقيقية كانت في إندفاع المياه بشكل قوي في اتجاهه لتبلل ملابسه، ومن ثَمَ غمرت أرضية المرحاض..
شهقت تحية بذعر على إثر المفاجأة:
يانصيبتي
مالك صائحاً بإنزعاج: اقفلوا المحبس
إيثار بذهول وهي تتراجع للخلف: معرفش هو فين.

تحية بقلق بالغ: البيت هايغرق، والسجاد هايتبل
كافح مالك لسد المياه المندفعة بكفه، فزاد هذا من إغراق ملابسه بالمياه، وصاح بضيق:
يا حاجة شوفي فين المحبس، أنا اتبهدلت على الأخر! سجاد ايه بس الوقتي!
تحية بنبرة حائرة وهي تتلفت حولها: معرفش هو فين!
ثم ركضت للخارج بخطوات ثقيلة لتنقذ ما يمكن إنقاذه قبل أن تبلله المياه وتفسد كل شيء..
إيثار بتلهف وهي تشير بيدها: بيتهيألي اللي هناك ده.

مالك بصوت شبه متشنج: شوفيه بسرعة، انا اتبهدلت
إيثار وهي توميء برأسها: حاضر
أشار لها مالك بعينيه محذراً:
خدي بالك وانتي ماشية لتزحلقي
إيثار بخفوت: ماشي
سارت بحذر على الأرضية المبتلة، ثم مدت يدها للأعلى لتمسك بذلك المحبس العلوي، ولكنها لم تتمكن من الوصول إليه، فنظرت في إتجاه مالك، وأردفت قائلة بضيق:
مش عارفة اطوله
مالك وهو يغمغم بسخط: يعني كان لازم تكوني أوزعة!

عقدت ما بين حاجبيها، وضيقت عينيها لترمقه بنظراتها الحادة، سائلته بحنق:
بتقول ايه مش سمعاك؟!
مالك على مضض: ولا حاجة!
ثم حدث نفسه بجدية:
مابدهاش بقى، لازم أتصرف بنفسي!
أرخى مالك كفه عن فتحة الصنبور المحطمة فزدات كمية المياه المتدفقة، وسار بحذر في إتجاه إيثار، ثم وقف قبالتها، على بعد مسافة صغيرة تقدر بالسنتيمترات، ومد يده للأعلى ليغلق المحبس العلوي..

في تلك اللحظة شعرت إيثار بالتوتر الرهيب والحرج الشديد يجتاحها بقوة بسبب قربه الشديد منها، وحصاره إياها دون قصد..
رفعت عينيها العسليتين عالياً لتنظر نحوه وتتأمل هيئته، وأدركت أنها قصيرة القامة وضئيلة الحجم مقارنة به..
ابتلعت ريقها، وتنفست بتوتر..
نظر مالك نحوها، ولمعت عينيه الداكنتين ببريق غريب وهو يراها عن قرب..

لم يتخيل أنه سيتمكن من رؤية عينيها بوضوح، فقرأ لمحة حزن خفية بهما وممزوجة بخوف مستتر، نعم لمحة أسرته، ودفعته للإستمرار في التحديق بها..
تأملت شفتيها المنمقتين، وتعابير وجهها البسيطة، والحمرة الخجلة على وجنتيها..
ولكنه سريعاً تراجع للخلف، وتنحنح بحرج قائلاً:
احم، أنا…
احنت هي رأسها للأسفل، ولم تعد تسمع صوت إنهمار المياه، فأدارت رأسها نحو الحوض، وفجأة هتفت بفرحة:
المياه وقفت..!

ثم تحركت بحذر مبتعدة عنه، وخرجت من المرحاض…
ابتسم لها مالك، ومسح قطرات المياه العالقة بوجهه، وحدث نفسه بإبتسامة خفيفة تشكلت على ثغره:
على الأقل طلعت بفايدة من البهدلة دي كلها…!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى